أثناء الكتابة عن شؤون الرعاية الصحية، يتضح جلياً للباحث والقارئ مدى تجذر معطياتها في سائر تطبيقات حياتنا اليومية وتنظيماتها التنموية. وما ذلك إلا لما تشكله من عصب محوري يغذي المجتمع بمداد الطاقة، وعزيمة التقدم. مما جعل التطرق لمحاور الرعاية الصحية جزءاً رئيساً من أي دراسة مجتمعية أو إستراتيجية وطنية.
ولم تكن رؤية المملكة العربية السعودية 2030 بالاستثناء من ذلك كله. فلقد اتضح تلمس القائمين عليها لذات الأهمية، حتى أضحت شؤون الرعاية الصحية منعكسة في كل زاوية من عناصرها. فيجد المطلع على نص الرؤية الكامل، والذي أتى في قرابة الأربعين صفحة، مدى ارتباط الشؤون الصحية في كل محور من محاور تلك الرؤية الطموحة وتعدد ذكرها في أكثر من محفل. ومن هنا أتت فكرة هذا المقال في حصر وتفنيد تلكم الإسقاطات للرعاية الصحية في جنبات الرؤية الوطنية المنشودة.
وكان الهدف بسيطاً ويتلخص في نقطتين، الأولى في استعراض وفرز كل ما ينطوي تحت مظلة الرعاية الصحية في الرؤية بشكل متسلسل، حيث ورد متفرقاً. أما الثانية فتختص بالتعليق على ما تم ذكره والإشارة إليه في ضوء الواقع المعاش للقطاع الصحي في مملكتنا الحبيبة، لاسيما مع صعوبة تغطية تفاصيل الشأن الصحي في صفحات وثيقة الرؤية بحكم شمولية الطرح ومحدودية المساحة.
لقد ارتكزت الرؤية على ثلاثة محاور رئيسية، وهي المجتمع الحيوي، والاقتصاد المزدهر، والوطن الطموح. وسيتم فيما يلي استعراض تلك المحاور من نظرة علوم الإدارة الصحية وما يشكل كل منها من داعم لتقديم الخدمات الصحية المأمولة. ولعلنا نلمس في هذا السياق الصحي بأن محور المجتمع يمثل ماهية المستفيدين من هذه الخدمات ومدى احتياجاتهم الصحية، في حين يعكس المحور الاقتصادي الأدوات الميسرة لتقديم كل منها وكيفية إتمام ذلك بكفاءة وبشكل مستدام. أما المحور الوطني فيختص بالبيئة الحاضنة والأجهزة الممكنة لسلاسة التغطية، إضافة للاضطلاع بالدور الحيوي في القياس والمتابعة.
نبدأ من محور المجتمع الحيوي: فلم تتوقف الرؤية على الإشارة لصحة المواطنين فحسب، بل أيضاً بالمقيمين كمكون رئيسي من نسيج مجتمعنا النابض بالحياة وروح التكامل. ذلك المجتمع الذي يمتاز بخاصية ديموغرافية كون أكثر من نصف المواطنين من فئة الشباب، دون الخامسة والعشرين سنة. لذا اشتملت الرؤية على الإحاطة بالنواحي الصحية الاجتماعية والنفسية بالإضافة للبدنية. ومن ذلك تهيئة بيئة ونمط لحياة صحية جاذبة بدعم مرافق رياضية من خلال 450 نادي هواة، مما يسهم في زيادة نسبة ممارسي الرياضة مرة بالأسبوع من 13% إلى 40%.
إن هذه العناية بنمط الحياة الصحية من شأنه ليس تحسين المؤشرات الصحية الحالية وحسب، وإنما التقليل من الأعباء المستقبلية الناتجة عن تقدم العمر بهذه الشريحة السائدة من الشباب حالياً. فمن المتوقع في أي مجتمع زيادة نسبة الأمراض غير المعدية (المزمنة مثل أمراض القلب والشرايين) مع التقدم بالعمر للشريحة الأكبر من مجتمعه، ما يلحق ذلك من زيادة في الإنفاق وصعوبة في تقديم الخدمات الدقيقة. وهذا يجعل الوقت الحالي مثالياً، بل ومطلوب كجزء من خطة استباقية لضمان معايير صحية عالية مع التغير المستقبلي لشكل الهرم العمري للسكان في المملكة.
وفيما يختص بمؤشرات جودة الرعاية المقدمة، فقد أشارت الرؤية إلى التقدم خلال العقود الماضية بالمؤشرات الصحية والتي أسفرت عن توفير 2.2 سرير لكل ألف نسمة، وتحسين متوسط العمر المتوقع عند الولادة من 66 إلى 74 عاماً. وكفلت العمل على استمرارية ذلك من خلال التركيز على الشق الوقائي والعلاجي جنباً إلى جنب من تمكين الاستفادة من الرعاية المنزلية والتنسيق فيما بين الخدمات الصحية الاجتماعية.
ويعتبر ذلك ترجمة للحراك المستمر والنجاح في التحكم بالأمراض المعدية والوبائية كشلل الأطفال، إضافة للدعم المادي المستمر للقطاع الصحي الحكومي في المملكة.
ولم تكتف الدولة بذلك، فلقد عزمت على الاستمرار في التحسن منذ بداية العقد الحالي. حيث إن إستراتيجية الرعاية الصحية في المملكة المقرة في العام 1430هـ هدفت إلى زيادة متوسط عدد الأسرة إلى 2.5 سرير، مما يرفع المعدل لمقدار يوازي نظيره العالمي (2.7 سرير لكل ألف نسمة).
ولعل من أهم ما جاءت به الرؤية، هو التجديد في رسالة دور الحكومة في تقديم الرعاية الصحية. فمن المرتقب تركيز الجهات الصحية الحكومية على جوانب التخطيط والتنظيم والمراقبة والصحة العامة، مع العناية بتقديم خدمات الطب الوقائي تدعيم أسس الرعاية الصحية الأولية ومحاربة الأمراض المعدية. بينما يتم نقل مهمة تقديم الخدمات إلى شبكة من الشركات الحكومية والخاصة تتيح اختيار مقدم الخدمة الملائم. وهذا مرتبط بتوسيع قاعدة المستفيدين من التأمين الصحي وتيسير الحصول على الخدمات ومواجهة الأمراض المزمنة، وتدريب الأطباء على ذلك.
وأجد هذا الأمر يشكل التحول المفصلي في نظام الرعاية الصحية في المملكة. وهذا ما قمت بتناوله في كتابي (كبسولات نفطية) والذي ناقش الحاجة لتأسيس نظام صحي يراعي التغيرات الاقتصادية ويدعم الاستدامة، إضافة لتوافقه مع معطيات مجتمعنا الثقافية والاجتماعية. ولعل فيما استعرضته الرؤية إشارة واضحة لتبني ذلك المسلك والذي يفسح المجال للقطاع الخاص بالمشاركة في تقديم الخدمة جنباً إلى جنب مع المؤسسات الحكومية من بعد تنظيم سبل استقلاليتها تحت إجراءات المحاسبة والشفافية والتي سيأتي ذكرها.
أما المحور الثاني فيُعنى بالاقتصاد المزدهر، حيث اشتمل على جوانب تمس تنمية القطاع الصحي وزيادة مقدمي الخدمة. فلقد أكدت الرؤية على دعم حصة المنشآت الصغيرة بجانب الشركات الكبرى، مع تعزيز مكانة الشركات الوطنية المتفوقة دولياً في مجالات الرعاية الصحية. كما تصبو لزيادة مساهمة نسبة القطاع الخاص من إجمالي الناتج المحلي والتي تبلغ حالياً 40% فقط، ولعل خدمات الرعاية الصحية أحد تلك المنافذ لتدعيم حصة القطاع الخاص في ظل النقص الحالي في المرافق الصحية العامة والخاصة. خصوصاً في ضوء ما خلصت إليه الرؤية من زيادة المعتمرين سنوياً من 8 إلى 15 مليون مسلم مع العام 2020م، نتيجة للتوسع في استيعاب الحرمين الشريفين والمطارات وأجهزة النقل العام.
ولما تشهد الرعاية الصحية من تزايد مستمر بالتكاليف في أغلب دول العالم، فقد تمت الإشارة إلى تهيئة التشريع الممكن من العمل الخيري والوقفي المؤسسي (مثل نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية ونظام الهيئة العامة للأوقاف) لمساهمة المواطنين وقطاع الأعمال والقطاع غير الربحي في دعم المشاريع الصحية، فحالياً في المملكة أقل من ألف مؤسسة وجمعية غير ربحية ويتم التطلع لتفعيل ذلك القطاع بشكل أكبر لتحقق زيادة من 0.3% إلى 6% من الناتج المحلي. ولاشك بأن القطاعات الصحية ومراكز الأبحاث، هي مرفأ مهم وفعال لتلكم الموارد الخيرية كما جرت العادة في الدول المتقدمة، والتي تشكل الأوقاف والهبات فيها رافداً مهماً لتغذية النشاط البحثي والخدمي الطبي.
ويشكل الإعلان عن هذا التوجه عنصر جذب وتشجيع لكل الجهات ذات الصلة في مجال تغطية وتقديم الخدمات الصحية، فرؤوس الأموال والفرص الاستثمارية موجودة، والجهات الوقفية المؤسسية والعائلية متوفرة في هذا البلد الكريم، وتوجه كهذا يحقق دعماً خدمياً وتمويلياً آخر لمنظومة عمل القطاع الصحي وكون الحكومة هي الجهة المنظمة للخدمات الصحية، فلعلها من خلال شبكة التنسيق ما بين كافة الجهات التمويلية والتنظيمية أن تضع أولوية لشمولية العلاج كأحد مبادئ وأهداف الخدمة المقدمة للسكان. ذلك أن تسهيل الحصول والوصول أمر، وشمولية التغطية أمر آخر جدير بتسليط الضوء لتبني السياسات اللازمة لتطبيقه.
ومع تزايد إحصاءات حوادث الطرق في المنطقة، وما تولد من هدر للطاقات البشرية وعبء على الموارد الاقتصادية والخدمية، فكان هنالك إشارة أيضاً للعمل على تقليصها واحتواء آثارها السلبية.
فقد بينت دراسة، وفاة شخص واحد في السعودية وإصابة أربعة كل ساعة بالمتوسط، وأن أكثر من 65% من الحوادث كانت بسبب السرعة الزائدة أو تجاوز الإشارة الحمراء، أو كليهما وهذا ما نتج عنه تصدر حوادث سير المركبات للسبب الرئيس الثالث للوفاة في السعودية في العام 2010م مما حدا بدول مثل سلطنة عمان إلى إجبار شركات تأمين المركبات دفع كافة التكاليف الصحية لمعالجة حالات الإصابة الناتجة عن حوادث مركباتها المؤمنة.
وتختتم الرؤية بمناقشة المحور الأخير المتمثل في الوطن الطموح، والذي يعكس البيئة الحاضنة لكل مظاهر النماء والتقدم. ولقد احتوى هذا المحور على العديد من النقاط المنعكسة على الجانب الصحي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر فأتت الرؤية على توفير مساحات مفتوحة ومسطحات خضراء ينعم بها السكان، مع العمل على الحفاظ على البيئة والحد من التلوث وإدارة المخلفات إعادة تدوير النفايات وجميع ذلك توجه واع وذو وقع على المخرجات الصحية وفق الدراسات العلمية فقد تبين من خلال استخدام خرائط الأقمار الصناعية الرقمية أن سكان الأحياء ذات الكثافة العالية من الأشجار، لديهم شعور أعلى بالصحة، وأقل إصابات بأمراض القلب.
وبالإضافة للعناية بالبيئة، فقد أشارت الرؤية لتفعيل الاستفادة الحقة من إرث المنشآت الضخمة والتي قامت نتيجة لما تم ضخه في السنوات الماضية في مؤسسات وقطاعات الخدمات المختلفة، ولتحقيق ذلك التفعيل بالإطار الأنسب، فلم تغفل أهمية التخطيط لتدريب القوى البشرية ومن ذلك تأهيل أكثر من 500 ألف موظف حكومي لتطبيق مبادئ إدارة الموارد البشرية بحلول عام 2020. وهذا أمر ضروري لمواكبة التوجه في تغيير دور الأجهزة الصحية من جهات حكومية، إلى مؤسسات مستقلة وذات مسؤولية. وفيما يخص شؤون المرأة، فقد عززت الرؤية رفع نسبة سوق العمل للمرأة من 22% إلى 30%، ولا تخفى الفرصة المتاحة في القطاع الصحي بالتحديد لتفعيل ذلك، كما دعمت الرؤية الجانب البشري من خلال استقطاب أفضل الكوادر للعيش وتقديم المساندة على أرض الوطن.
ولخلق قطاع صحي فعال وبأسلوب مبتكر يوجد خيارات صحية متنوعة، ولضمان وجود أرضية لتلكم الأساليب المبتكرة، فقد أشارت الرؤية لضرورة تحفيز الاستثمار في بنية تحتية رقمية، ليس لتمكين الأنشطة الصناعية فحسب، وإنما كداعم أساسي للخدمات الصحية أيضاً. فالتوجه نحو الحكومة الإلكترونية إن كان خياراً لبعض القطاعات، فلقد بات ضرورة لشؤون القطاع الصحي مما يمكن من مشاركة وتحديث بيانات المستفيد، وتحسين تجربته مع متابعة الأداء، ولقد قطعت دول مثل تايوان وفرنسا شوطاً في أتمتة جوانب ملفات المرضى والشؤون المحاسبية من خلال إصدار بطاقات إلكترونية لكل مريض، توفر بشكل لحظي معلومات سريرية وإدارية محدثة عن كل مستفيد.
إن جميع ما ذكر، ولتقاطع أهدافه وتعدد الأجهزة المشرفة عليه، ليتطلب توفير آليات وأدوات متعددة لضمان سلاسة التنفيذ والمتابعة، فكانت الرؤية لحكومة تفاعلية تعزز الكفاءة والشفافية من خلال توفير وحدات حكومية لمراقبة التنفيذ ومتابعة الأداء، مدعومة بمخرجات المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة، ولقد تم ربط جميع ذلك بمكتب للإدارة الإستراتيجية على مستوى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية لمواءمة كافة البرامج فيما بين بعضها البعض وفق خطة حوكمة شاملة تم الإعلان عنها حديثاً بعيد تدشين رؤية المملكة.
لقد جاءت الرؤية السعودية 2030 على الرغم من محدودية صفحاتها ملامسة لأغلب هموم شؤون الرعاية الصحية وسبل تطويرها ومع تشعب تأثر الصحة بكثير من الأجهزة والمرافق، أوضحت هذه المقالة تقاطع العديد من النقاط الحيوية في كافة محاور الرؤية الثلاثة مع روح الشأن الصحي وسبل تطويره ليكون مواكباً لملامح النهضة في سائر خدمات الدولة وانتهاجاتها، كما انعكس الاهتمام بالعديد من إستراتيجيات الخدمات المساندة على دعم البيئة الصحية الشخصية والوظيفية.
إن التغييرات الجذرية تبدأ برؤى طموحة وليس من شك في حاجة نظام الخدمات الصحية لنقلة نوعية تختص بطريقة هيكلته وإعادة ترتيب وظائفه بشكل يمكن المشاركة ما بين القطاع العام والخاص والخيري في تقديم الخدمات، ويعزز من الدور الإشرافي لأجهزة الدولة. وهذا ما أتت به الرؤية الجديدة والتي نتطلع لقطف ثمارها وملامسة أثرها في كل مرحلة تلو الأخرى.
د. نايف بن عبدالله بن دايل – أستاذ طب الأسنان المشارك بجامعة الملك سعود – ماجستير الإدارة الصحية من جامعة هارفارد
نُشر في: صحيفة الجزيرة – الثلاثاء ١٦ رمضان ١٤٣٧ هـ ، العدد ١٥٩٧٢